سئلو صاحبى عن "سرعة البراق" وهذه خواطره
حضرة الأستاذ الدكتور
كل عام وأنتم والأسرة الكريمة بخير .. وبعد
كل عام وأنتم والأسرة الكريمة بخير .. وبعد
معذرة أني لم أكن جاهزا لموضوع مبحثكم في اشتقاق السرعات الكونية من الآيات القرآنية، والذي هو في كل الأحوال خارج نطاق قدراتي ومعرفتي تماما. والذي تعلمته في الفيزياء أن حركة الأجسام ذات السرعات العادية تخضع لقوانين الحركة في الميكانيكا الكلاسيكية (وفق معادلات نيوتن)، وأن حركة الأجسام ذات السرعات العالية التي تقترب من سرعة الضوء في الفراغ تخضع لقوانين الحركة في الميكانيكا النسبية (وفق معادلات اينشتاين). وهذه وتلك تخص العالم المادي المعروف في الكون (أي الذي يمكن قياسه أو الكشف عنه)؛ وهو يمثل ما بين 1، 10 في المائة من إجمالي مادة الكون، وفيزياؤه معروفة إلى حد يكاد يكون كاملا. وتمثل النسبة المتبقية (بين 90، 99 بالمائة) ما يعرف باسم المادة المعتمة، ولا يعرف عنها أكثر من ذلك؛ لا فيزياء ولا معادلات رياضية يمكن أن يشتق منها شيء، أو يحسب شيء. ولعل أفضل إجابة ممكنة لسرعة الإسراء والمعراج، هي ما خرجت "أم أمان" بها تلقائيا : سرعة قانون "كن فيكون"، وهو يصدق على مادة الكون؛ المعروفة والمعتمة على حد سواء
وآيات الإسراء والمعراج شأنها شأن كل آيات الكتاب الكريم؛ ما يفتح الله به علينا نتدبره، وما غمض علينا لا قول لنا فيه كمسلمين أكثر من : "آمنا به كل من عند ربنا". وهذه وتلك لا محل فيها، ولا مجال، للجدل. ولقد أرشدنا القرآن الكريم إلى الانتباه دائما إلى ما هو أهم من الجدل؛ المعاني والدلالات وما وراءها من حكمة وعناصر إيمانية. فنجد مثلا في سورة الكهف ما أثير من جدل قديم حول عدد الفتية؛ فقيل ثلاثة رابعهم كلبهم، وخمسة سادسهم كلبهم وسبعة وثامنهم كلبهم، وحسم القرآن الأمر تماما ونهائيا في : "ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل"، ولم يذكر القرآن الكريم عددهم لأن ذلك (بديهيا) ليس بذي أهمية (كما ألمح ابن كثير). والأهم من ذلك كله، ما جاء بالآيات التالية – وفيه "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". وهذا توجيه رباني لا يحتمل الجدل، ولكن فيه مادة تدبر متصل بالغة الجمال والروعة والمتعة والثراء. كذلك نجد أن القرآن الكريم لم يعط اسم فرعون موسى؛ بينما لم يتوقف المجادلون إلى اليوم عن التنقيب فيه. وبالمثل ما جاء في سورة يوسف عن فترة من سجنه يعلمها الخالق وحده (بالثواني وكسورها)، ومع هذا لم يزد على : "فلبث في السجن بضع سنين". ويرشدنا جميع هذا إلى حقيقة أن كلا من عدد أهل الكهف واسم فرعون موسى وسنين سجن يوسف ليست أبدا عناصر (أو معطيات) تدبر، وبالتالي فإنها لا تمثل أبدا قضية إيمانية. وأعتقد، قياسا على ذلك، بأن حساب سرعة "البُراق" تخضع لنفس التصنيف
وأذنوا لي، بعد هذا، أن أشير إلى ما أعتقده شخصيا بالنسبة للسعي إلى الأجر من وراء الجهد المبذول في التقرب إلى الله (مثلا؛ بالتدبر العلمي للقرآن في الحالة التي تعرضون). وقناعتي هي أنه حين ولدت بفضل الله مسلما أكون قد تلقيت الأجر الكامل سلفا (على هبة الحياة ونعمة الإيمان)؛ طامعا فقط في أن تكفي رحلة العمر للوفاء بحق الله عندي في هذا : "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين
وبعد التقديم الضروري أعلاه، تبقى مسألة حساب السرعات. وهي بالغة البساطة: لو أننا قبلنا بالاعتماد في هذا على آيات الكتاب الكريم : "... وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" – الحج 47، "... ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون" – السجدة 5، "... في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" – المعارج 4. ولقد خرج بعض من أصحاب دعاوى "الإعجاز العلمي في القرآن" من رقم ألف سنة أرضية مناظرة لليوم النسبي بقيمة لسرعة الضوء تطابق الرقم المقاس والمعتمد (وهو 300 ألف كيلومتر في الثانية تقريبا). وتعطي هذه النتيجة للبُراق سرعة افتراضية بقيمة 15 مليون كيلومتر في الثانية؛ مما يعني قطعَه لستة أضعاف المسافة من الأرض إلى الشمس، في دقيقة أرضية واحدة. وهذا، طبعا، بافتراض أن حركة البراق تخضع فعلا لحسابات قوانين الميكانيكا النسبية. وهنا تبرز مشكلة تناقض ظاهري مباشر؛ فالضوء يقطع المسافة من الشمس إلى الأرض في نحو ثماني دقائق، وهو ما يعني تطبيق حسابات الميكانيكا النسبية على حركة لا تخضع لقوانين هذه الميكانيكا في السرعات القياسية (غير الاتجاهية) الموجبة؛ حيث سرعة الضوء لها قيمة قصوى مطلقة (في الفراغ). لكن، من حسن الحظ، تزول أسباب هذا التناقض الظاهري؛ حين نعلم بأن قوانين الميكانيكا النسبية تسمح بحركة جسيمات كونية افتراضية (سميت بالتاكيونات)، ذات سرعات قياسية سالبة تفوق في قيمتها قيمة سرعة الضوء المقاسة للجسيمات الكونية المرصودة
ومعنى كون سرعتها سالبة؛ هو أن هذه الجسيمات الافتراضية (التقديرية التخيلية) تسافر، في البعد الزمني؛ إلى الوراء. وهو ما ينطبق على البراق، وفق الميكانيكا النسبية؛ كجسم يتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء - وهو ما قد يفسر لمتدبر علميِّ حقيقة ما روي عن لقاء سيدنا الرسول الكريم بأنبياء الله أجمعين، من أول سيدنا آدم إلى سيدنا عيسى؛ عليهما السلام. ومن يفسر هذه النتيجة كدليل وبرهان على "الإعجاز العلمي في القرآن" وصدق رواية نبي الله، هو يصرح فعليا وضمنيا بأن العلم أصدق من الله ورسوله حديثا؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما القراءة الموضوعية المنصفة لهذه النتيجة (إن ثبتت)؛ فإنها تشهد للعلم بأنه حقق فيها (وبها) ذلك الإعجاز الهائل، حين أفلح في التوصل إلى إحدى حقائق الكون (أو حقائق الخلق؛ وفق الإنجاز المحقق) : في نصوص الكتاب الكريم. فتكون هذه هي شهادة القرآن (الحق الثابت المؤكد والصدق المطلق) في قيمة إنجاز علمي بعينه؛ وليس العكس أبدا
وعلى ذكر دعاوى "الإعجاز العلمي في القرآن"، وغيرها من دعاوى الإعجاز المنسوبة إلى الكتاب الكريم؛ نقول بأنها (بكل أسف) دعاوى إجحاف وليست أبدا دعاوى إنصاف : فالمولى الكريم سبحانه "لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض". ويحسم الأمر، ثانية، البيان القرآني : "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". ومعنى هذا بكل وضوح أن الحق لا معنى فيه، ولا قيمة، للجدل : إثباتا أو نفيا. ومحاولة الإثبات تبدأ لزاما بقبول افتراض (خاطئ وجائر) بأن القرآن من عند بشر (أو على الأقل التسليم به ضمنا وجدلا). ولا يمكن أن يقبَل بهذا الافتراض صاحب يقين في "الحق" أكيد ومتين. وفي كل الأحوال : ليس القرآن بحاجة لإثبات من أحد (أو شهادة براءة من مخلوق) بمصدره الإلهي، وليس القرآن أقل أو أكثر إعجازا من هذا الفيض الهائل من آيات الله الكبرى؛ بداية من خلق الكون إلى خلق الأنفس. والمتعامل مع القرآن بأمانة بغية الحقيقة، يكفيه عقل متفتح متفكر متدبر، وأما المتعامل معه متحديا مكابرا فلن يجني سوى الخيبة والندامة؛ "كناطح صخرة يوما ليوهنها"
و"الله خالق كل شيء"، و"هو على كل شيء قدير"؛ أما المخلوقات (ومنها الإنسان الذي نفذ إلى باطن نواة الذرة، ونفذ من أقطار السماوات والأرض"، فإنها هي التي تصنع المعجزات "بإذن ربها". والرسول الكريم لم يصنع القرآن حتى يكون معجزته؛ وإنما تكمن وتبقى معجزته الكبرى (كبشر) في أنه صنع من العدم حقا أمة سوية رائدة، وفجر ينابيع الخير والرحمة في قلوب كانت "كالحجارة أو أشد قسوة"، وبقي بشرا عندما دانت الدنيا لسلطان دولته : بينما قد تأله، ويظل يتأله، النكرات ممن يأتيهم مقدار حبة خردل من سلطة أو نفوذ؛ بغيا وعدوانا!!
مع بالغ الشكر والتقدير
يقلم: د. ف ع أ
<< Home