Monday, February 13, 2006

عاصفة الصحيفة الدنمركية

لم تهدأ بعد توابع عاصفة الصحيفة الدنمركية. ويعود الصراخ لكي يعلو مدويا من جموع المسلمين الناقمين في أنحاء مختلفة من العالم؛ وقد حركتهم دعاوى واضحة البطلان بوقوع إساءة للرسول الكريم، في موجة عداء للدين الحنيف. ومن وآيات ودلائل وعلامات بطلان تلك الدعاوى أن الأشكال التي رسمت هي من نسج الخيال ولا تحمل أدنى شبه لملامح وجه الرسول الكريم كما وصفها معاصروه القريبون منه، كما أنها لا تعكس أيا من ملامح شخصيته وطباعه وخصاله المعروفة لكل صاحب أدنى دراية بسيرته الكريمة الشريفة. والانفعال بتلك الأشكال لا يمكن أن يصيب إلا ذلك الذي "على رأسه بطحة، فيتحسسها"، وبالتالي لم يسئ إلى الرسول الكريم إلا أولئك الذين أصروا على أن التصوير الزائف مطابق لأوصاف الرسول، فيعنيه حقا : "و ما سبك فعلا إلا ذلك الذي أبلغك
ومن جانب آخر، فإن تلك الأشكال المدانة لا تحمل أي شبه في الملامح الظاهرية أو في المضمون لأي مسلم ملتزم يحترم انتماءه لعقيدة الإسلام ويعيش بقيمها ومبادئها؛ حتى يمكن أن تسيء إليه من قريب أو بعيد. وما هو واضح بالفعل تماما في تلك الرسوم الكاريكاتيرية المدانة أنها موجهة إلى فئات محددة معلنة معروفة من المسلمين أصحاب أيديولوجيات العنف والتطرف، فجاءت مطابقة لملامحهم الشهيرة ولطباعهم التي هي واجهة لهم يعتزون بها؛ فلا يخفونها على أحد. وبالتالي لا يمكن لهم منطقيا اعتبارها إساءة لهم؛ وإنما على العكس تماما، هم سعداء بها كثيرا؛ وإن كانوا غير ذلك، لحرصوا كثيرا على إخفائها. ومن فرط سعادتهم بها، فإنهم كانوا الأسرع إلى إبرازها واستغلالها للترويج لأيديولوجياتهم التي تدعو إلى بث الفرقة والكراهية بين المسلمين مع بعضهم البعض، ومع غيرهم. وكان خطباء المساجد الحماسيون الدراميون أداة طيعة (غالبا عن حسن نية) في تحريك الجماهير التي أسلمت عقولها لهؤلاء؛ مثلما أسلم هؤلاء عقولهم من قبل لناصبي الشرك الذين خططوا بإحكام بالغ لإثارة واستثارة جماهير ساذجة، غدت ضحية سهلة لهم. فالرسوم الكاريكاتيرية إذن لم تكن تصور نبي الله الذي نعرفه ولا يعرفه الرسامون، وإنما تصور رسولا يعرفونه ولا نعرفه هو نبي وزعيمُ وقائدُ وقدوة أصحابِ أيديولوجية التطرف الأعلى صوتا والأوسع صيتا. وأن يعطوه اسم "محمد" لا يعني شيئا بالمرة؛ فهناك لا شك عشرات الملايين ممن يحملون اليوم هذا الاسم وبينهم قطعا آلاف اللصوص والقتلة والمحتالين والمشعوذين والفسقة الفجرة
وكان من الطبيعي، أو المنتظر، ألا يصيب ذلك الطوفان الراسخين في العلم من أهل الذكر وأهل الفكر المستنير؛ لكن "العيار الذي لا يصيب، فإنه يشوش ويربك". وهكذا أربك المد الجماهيري العارم أدوات الحكمة لدى أولئك المحصنين بعلمهم وشتت فكرهم فنسوا منهج الإسلام في إحباط كل محاولات الاستفزاز، وأبعد فكرهم عن حقيقة أنها لم تتوقف منذ عهد الرسول. وقد أنبأنا كتاب الله بأنها لن تتوقف؛ فزودنا بأقوى وأمتن التحصينات وأعظم وأكرم وأنبل الأدوات في التصدي لها بكفاءة تامة. ويقول المولى جل جلاله في هذا : "وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون"؛ فليس في الأمر إذن جديد. ومثلما شخص القرآن الكريم مواقف العداء في أكثر من موقع، فلقد وجه الرسولَ الكريم إلى كيفية التعامل مع تلك المواقف بما يقره الإسلام ويوافق مقامه الرفيع؛ فتباينت الوسائل بين التجاهل التام (وهو أضعف الإيمان)، وتدرجت إلى الصبر الجميل (والله المستعان على ما يصفون)، ثم ارتقت محلقة إلى آفاق السمو فوق كل الصغائر والضغائن والنزاعات : عند مستوى "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وهذا التوجيه الأخير ليس مجرد نصيحة إرشادية، ولكنه أمر مقرون بوعد قاطع بنتيجة مثمرة مفرحة؛ ولا يخلف الله وعده
ومن هنا سارع بعض أهل الذكر والفكر إلى المناداة بتطوير وتحديث الخطاب الديني. والحقيقة أن الخطاب المسلم بالمواصفات القرآنية المعروفة لدى العامة والخاصة : هو وحده يكفي ويفيض ويزيد .. في كل المواقف؟! ولن ننسى أبدا كيف جاء ذلك الخطاب هادئا وقورا كاملا متكاملا في جميع عناصره؛ فلا يتقادم ولا يخطئ هدفه، أو يفقد قيمته ونفعه وجدواه، أبدا. وهو خطاب يبدأ عند نقطة محددة واضحة المعالم يوجزها قول المولى سبحانه : "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة"، وينتهي عند احتمال مواجهة أحلك وأقسى ظروف الإنكار؛ بمنهج رائع راق مترفع يوجزه قول المولى سبحانه في ثلاثة مواقع تأكيدية أو يزيد، منها : "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما"، "وأعرض عن الجاهلين"، "سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين". وبين نقطة البداية ونطاق النهاية، يزخر وسط وعصب هذا الخطاب بوفر كبير من أدوات الثبات على موقف السمو والرقي والترفع وقمة الاتزان تحت أقوى الضغوط؛ ويوجزها قول المولى سبحانه : "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين"، "واصبر وما صبرك إلا بالله"، "إن الله يحب المحسنين". وبهذا وفر الإسلام لأصحابه كل أسباب العيش الآمن الكريم؛ من خلال الحرص الكامل على السمو فوق كل الصغائر، فإن وعوها ورعوها حق رعايتها عاشوا في سلام كامل مع أنفسهم ومع غيرهم من عباد الل
ومهما قيل في الإسلام وفي الرسول فلن يقارن ذلك في بشاعته وفحشه أبدا مما أورده القرآن الكريم عن تفاعل بشري واقع فائق الإفراط في القبح والفجور. يقول المولى سبحانه : "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون". ثم تأتي الإجابة التي يرضاها الخالق لعباده المؤمنين، على هذا الموقف المفجع، في الآية التالية مباشرة "قل اللهم فاطر السماوات والأرض أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون". فلا غضب ولا تشنج .. وإنما حكمة وتعقل وترفع وتمسك بحبل الله الذي به النجاة وفيه الفلاح "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب
ويُطمئن المسلمين دائما أن الخالق قد وعدهم، في هذا المقام، وعدا قاطعا؛ ولن يخلف الله وعده أبدا. يقول سبحانه : "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون". وما دام الله باق؛ فالإسلام باق رحمة للعالمين والقرآن باق هدى ونورا، ويبقى الرسول الكريم بأمر ربه : خاتم النبيين والمرسلين وبشرى للمؤمنين. ويثبت الواقع لنا، على مدى التاريخ، أن محاولات غلاة المكابرين (من الحاقدين والمارقين والأيديولوجيين المتطرفين) للنيل من الإسلام ورسول الإسلام لم تفلح أبدا في تحول الأسوياء من المسلمين عن مبادئ وقيم دينهم الحنيف. وصدق المولى سبحانه : "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي والآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء
ويبقى بعد هذا أن يسارع أولو الأمر الأمناء والمؤتمنون على شئون المسلمين، في أرض الله؛ إلى إصلاح ما أفسدته الجماهير المنقادة بانفعالاتها وعواطفها، والمنساقة وراء الانطباعات والظنون مرتكبين بذلك أخطاء فادحة في حق دينهم الحنيف الذي أمر بالحسنى : "وقولوا للناس حسنا"، و"ولا تنسوا الفضل بينكم". يقول المولى سبحانه : "وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين". وإن الله الذي خلقنا من نفس واحدة هو سبحانه الذي قضى فينا بأن يجعلنا شعوبا وقبائل؛ من أجل أن تعارف (نتحاب ونتآلف ونتراحم) وليس أبدا لكي نتعارك!! وسوف يصلح الأمور كثيرا أن يبادر فضيلة مفتي الديار بالتنسيق مع نظرائه في أقطار الأرض، والإسراع بتشكيل وفود منهم إلى البلدان المتضررة والمضارة من جراء أفعال الجماهير المنفعلة المستثارة (بلاد الدنمرك وغيرها)؛ وبذل أقصى الجهد لإصلاح ما أفسدوه من علاقات محترمة حميمة مع تلك البلدان وأهلها. وبالطبع لن يجرمنَّ أصحابَ الفضيلة شنآن قوم على ألا يعدلوا؛ فهم أعلم من غيرهم بأن "الرجوع إلى الحق فضيلة
بقلم: د. ف ع أ