صلاة الله على سيدي "كامل النور"
يقول المولى سبحانه : "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، و"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون". وهكذا تعمينا الانفعالات عن تدبر حكمة الأحداث، فنفقد ما قد يكمن فيها ويحتجب وراءها من نفع مبين
ولعل من أجمل المعاني، بل الحقائق، التي برزت في تدبر أحداث الكاريكاتير الدنمركي المتلاحقة؛ ما قد تبين من حكمة الخالق في بعثه رسوله الكريم برسالة الإسلام العظيم إلى أمة اقتصر إبداعها الفائق على أرقى فنون الكلمة : "الشعر". وفي مقابل ذلك حرمها موهبة اختص بها المصريين القدماء، مثلا؛ وهم قد تفوقت وتميزت وبرعت مواهبهم وإبداعاتهم في أرقى فنون الصورة. وهكذا هيأ سبحانه ويسر أسباب وضمانات حفظ كتابه الكريم من خلال عشق أهل الجزيرة العربية الأوائل "للكلمة" في أجمل أشكالها ونسقها ومعانيها. وهكذا، أيضا، ضمن لصورة نبيه الكريم أن تبقى إلى الأبد صورة "كامل النور"؛ فهو صلى الله عليه وسلم نور من الله ورسول كريم وبشرى للمؤمنين ورحمة للعالمين
وبينما ليس هناك في العالم كله عامة من يعجز عن التعرف على صورة خوفو أو صورة خفرع كما كانا منذ نحو خمسة آلاف عام، وعلى صورة إخناتون وتوت عنخ آمون كما كانا منذ نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة عام؛ فإن من المستحيل تماما على أبرع فنان ذي خيال نافذ جامح على وجه الأرض أن يبدع رسما بشكل مقارب لما كان عليه بشر واحد محدد من أهل الجزيرة في زمن النبي الكريم، ناهيك عن شكل الرسول العظيم نفسه. هذا على الرغم من أن مولد الرسول الكريم قد جاء في زمن أحدث كثيرا من زمن خوفو (بفارق نحو 3600 عام) ومن زمن إخناتون (بفارق نحو 2100 عام). وإذا كان بمقدور أي متخلف أو معتوه أو مغتاظ أن يحصل على صورة حقيقية مطابقة لشكل خوفو أو خفرع أو إخناتون أو توت عنخ آمون، فيمزقها أو يدوسها أو يحرقها؛ فإن مثله لن يجد صورة تشبه أحدا من معاصري الرسول الكريم، فيمتهنها على نحو جاهل مبتذل أو آخر : فما بالنا بصورة نبينا "كامل النور"، نفسه؟
وهكذا ليس أمام أي منصف إلا أن يقبل بصدق إعلان رئيس التحرير الدنمركي؛ في أنه "حقيقة لم يكن يقصد إيذاء مشاعر المسلمين والسخرية من نبيهم أو دينهم". ولعله قصد ألا يزيد في إعلانه، فيدعي بأنه إنما أراد أن يوقظ عامة المسلمين على حقيقة بشاعة وعظم وضخامة جرمهم في حق دينهم العظيم ونبيهم الكريم. وإذا كان جهل رئيس التحرير الدنمركي بحقيقة العقيدة ورسول الدعوة يغفر له، فما هو عذر عامة المسلمين وكثير من خطبائهم ووعاظهم ورجال الفقه والفتوى بينهم؛ في الإساءة إلى الدين الحنيف والنبي الكريم بمسلكهم المنفر المشين؟! بينما هم يتلون الكتاب، وقد صدق فيهم قول المولى سبحانه : "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم"، وقوله (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون
ولو أن رئيس التحرير الدنمركي وصله علم أولئك الذين يرددون كلاما نسب إلى النبي الكريم (والله تعالى أعلم بمدى صدقهم) : "كل إناء ينضح بما فيه"، لغلبهم بالحجة؛ ولسان حاله يقول "وشهد شاهد من أهلها"، فالمسلمون بالمنطق الذي يراه غير المسلم هم البضاعة الحية للإسلام ولرسول الإسلام. فتكون رسالة الكاريكاتير بكل وضوح هي : "هكذا أنتم، وهذه صورتكم في أعين الخلق، وهذه هي حقيقتكم، وهذا هو فعلكم برسولكم وفعلكم بعقيدتكم؛ ففيم الاعتراض والاحتجاج .. وهذي الضجة الكبرى علاما"؟! وبدلا من أن نواجه الحقيقة ونصلح من حالنا المعوج، إذا بنا نثور في وجه الذين واجهونا بالحقيقة التي لا نراها في أنفسنا؛ ونرفض أن نراها ونرى معها الواقع المهين الذي ارتضيناه لأمتنا.. حين نرفض أن نحترم انتماءنا لعقيدة هي قمة الرقي والسمو والشموخ والاحترام، عقيدة توفر لنا كافة مؤهلات العيش الآمن الكريم؛ مع أنفسنا ومع غيرنا. ونحن في كل هذا ننسى قواعد الحِكم الفطرية الشعبية التي كثيرا ما نرددها دون أن نعيها، مثل "يا بختي بمن أبكاني وبكى علي، ولم يُضحكني ويضحك الدنيا علي"، و"الابن السوء يجلب لأهله العار واللعنة". وفي أقصى حالات تعقلنا نتحدث عن تصحيح وتطوير الخطاب الديني، وليس هناك في عصرنا هذا خطاب ديني يذكر وإنما هناك خطاب وعظي (انفعالي صارخ مجلجل مقلق مزعج متشنج أغلب الأحيان). أما الخطاب الديني الحقيقي فهو خطاب هادئ عقلاني منطقي عملي تطبيقي مستنير متدبر متبصر، له محدداته الواضحة في كتاب الله وسنة نبيه. يقول المولى سبحانه "اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور"، و"ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما". ويقول الرسول الكريم "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وإن قوما غرتهم الأماني يقولون نحسن الظن بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل
إذن، ليس في الإسلام ولا في سيرة رسول الإسلام هذا الإفلاس الفكري الذي تشهده بلاد المسلمين؛ لا مظاهرات ولا احتجاجات ولا مقاطعات، وإنما هناك "ادفع بالتي هي أحسن". ولو صدقنا، وأفلحنا فإن لنا في رسول الله الأسوة الحسنة. ويكفينا هذا التوجيه الرباني إلى الرسول الكريم، في أقسى مواقف الاستفزاز والإيذاء والمكر السيئ. يقول المولى سبحانه : "ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين". ويقول ابن كثير في هذا، نقلا عن السلف الصالح؛ "وهذا هو عين النصر والظفر". ولعل من أسفه السفه ودلائل الشرك بالله والشك في قدرته سبحانه ما يتردد عن الحشد للدفاع عن الإسلام ورسول الإسلام، بينما قضى المولى العليم القدير: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا"؛ فمن أكثر إيمانا، وأولى بالذود عنه وعن رسالته الكريمة، من سيد المرسلين والناس أجمعين. يقول المولى سبحانه "والله يعصمك من الناس"، وقد عصمه الآن ومن قبل وفي كل حين؛ بمكانة فريدة اختصها رسوله (مكانة كامل النور)، وليس بغضب الغاضبين. فمن يطفئ نور الله فيه؟
! ويبقى السؤال : أنّى لنا أن ننهض وقادة الفكر في أمتنا، ممن هم أعلى صوتا وأذيع صيتا، مشغولون بالتأكيد على حقوقهم في حرية الإبداع. وحرية الإبداع عندهم تقضي بأن الإسلام هو أساس التخلف؛ لأنه يقف حائلا أمام ذيوع المنكر وشيوع الرذيلة التي امتلأت بها أفلامنا ومسلسلاتنا ومسارحنا وأغانينا وشوارعنا؟! وقد نسب إلى السيدة نفيسة أنها مصدر القول المأثور : "من أعمالكم سلط عليكم"، فلا لوم على غرب أو شرق أو شمال أو جنوب أو قوة عظمى أو قوة مستعظمة .. ولكن اللوم كل اللوم علينا نحن الذين نعبد الله على حرف؛ بشروطنا وأهوائنا وأمزجتنا وغرائزنا وانفعالاتنا وصراخنا وتشنجنا، ومكابرتنا في الحق
يقول الشاعر : "دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك وما تصبر"
ومن العجب العجاب أن كثيرين من أولئك المبدعين التحرريين، ومن عامة المسلمين، يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون؛ كما يلعنون الأب والأم ويسبون بالدين، ويعظوننا بمكارم الأخلاق. فأية عقيدة يظن أولئك أنهم إليها ينتمون، وأي نبي يظنون أنهم به مقتدون؛ بل وأي إله يظنون أنهم يعبدون وأنهم إليه راجعون؟! يقول المولى : "أرأيت من اتخذ إلهه هواه". والحق يقال، والشهادة لله وحده، فإن كثيرا ممن نشهد بين المسلمين في هذا العصر قد استحبوا العمى على الهدى فاستحقوا المذلة والهوان؛ وقد صدق فيهم قول المولى : "ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد"، و"ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم". وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهدانا أجمعين
ومن العجب العجاب أن كثيرين من أولئك المبدعين التحرريين، ومن عامة المسلمين، يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويعتمرون؛ كما يلعنون الأب والأم ويسبون بالدين، ويعظوننا بمكارم الأخلاق. فأية عقيدة يظن أولئك أنهم إليها ينتمون، وأي نبي يظنون أنهم به مقتدون؛ بل وأي إله يظنون أنهم يعبدون وأنهم إليه راجعون؟! يقول المولى : "أرأيت من اتخذ إلهه هواه". والحق يقال، والشهادة لله وحده، فإن كثيرا ممن نشهد بين المسلمين في هذا العصر قد استحبوا العمى على الهدى فاستحقوا المذلة والهوان؛ وقد صدق فيهم قول المولى : "ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد"، و"ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم". وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهدانا أجمعين
بقلم: د. ف ع أ
<< Home