الإخوان المسلمون الحقيقيون كما خبرتهم
كنت آخر مولود في أسرة من أربع إناث وأربعة ذكور؛ لوالدة أمية على الفطرة، وأب أزهري وفدي صميم بقي على الفطرة. والفارق السني بيني وبين أصغر أشقائي الثلاثة نحو سبع سنوات. ومعنى هذا، وفي ضوء انشغال الوالدين بمهام رعاية شئون الأسرة الكبيرة؛ عُهدت مهام الإشراف المباشر على نشأتي، إلى أشقائي الكبار. وفي نحو السادسة من عمري بدأت أعي حقيقة الاختلاف الفكري بين والدي وأشقائي. فأبي دائم التحدث عن سعد باشا زغلول وأم المصريين، والإشادة برفعة الزعيم الجليل مصطفى النحاس باشا، وأشقائي الثلاثة مهتمون بسيرة ومآثر المرحوم الشيخ حسن البنا؛ مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والمرشد العام لها. وأذكر أن هؤلاء كانت لهم في تلك الفترة جريدة باسم "الحوادث"، ولست أعرف إلى اليوم لماذا اختار والدي أن يعلمني القراءة فيها؛ بداية من العناوين الرئيسية الكبيرة
وعندما اعتقِل أشقائي الثلاثة أواخر عام 1954 وصدرت ضدهم أحكام بالسجن لمدد متفاوتة، بعث إلي شقيقي الأكبر عليه رحمة الله ورضوانه من الواحات برسالة مؤثرة مبكية يعتذر فيها على تقصيره معي وانشغاله عني بأمور منعته من تقديم الرعاية الواجبة المستحقة لي. ومن الواضح أنه لم يشعر أنني كنت أتطلع إليه، وإلى الشقيقين الآخرين، بشغف كبير كنماذج حية رائعة لما كنت أتمناه لنفسي حين أكبر. وأذكر أن شقيقي الأوسط عليه رحمة الله ورضوانه اكتشف يوما وأنا في سن المراهقة أنني أقتني مجلة تتناول موضوعات عن نجمات السينما الحسان الفاتنات وتعرض لهن صورا في أوضاع وأردية إغراء؛ ولدهشتي الكبيرة لم يفتح لي محضرا أو ينهرني بشدة أو يعنفني بقسوة، وإنما نصحني في مودة ولطف ولين بأن أنأى بنفسي عن مثل هذه الإصدارات .. لأنها لن تصنع إنسانا محترما سويا. أما عن أصغر أشقائي، أكرمه الله وأعزه وبارك له في عمره وعافيته، فإن مآثره تفوق الحصر. ولعل أروع ما أذكره له من سنين صباي؛ ذلك اليوم، من شتاء عام 1951، الذي عاد فيه إلى البلدة – وقد كان يدرس في السنة الثانية بكلية الطب؛ ليخبر والدي بأنه قد أكمل تدريبه كفدائي .. ويطلب منه الإذن له في أداء واجبه الوطني، مع إخوانه المقربين من المجاهدين (في المجموعة التي كانت تضم عمر شاهين ومحمود المنيسي وعادل غانم وغيرهم من الذين استشهدوا لاحقا) في المعارك الدائرة ضد جيوش الاحتلال بمنطقة القنال. ورد الوالد رحمة الله عليه ورضوانه برفض إعطاء الإذن له في هذا، موجها بأن جهاده الأعلى والأكبر هو في دراسته وأن مصر تحتاجه حيا أكثر مما تحتاجه ميتا. فأصغى الشقيق بأدب جم، ولم يعقب بشيء مطلقا .. ثم قبل يد والده الكريم، وانصرف عائدا إلى القاهرة
وهكذا لم يكن أشقائي يدركون أنني كنت أرقبهم وأرصد حركاتهم وسكناتهم عن كثب، وأسجلها في ذاكرتي بفخر واعتزاز وإعجاب شديد. والذي لا أعرفه ولا أفهمه للآن؛ أن أحدا منهم لم يحاول أن يضمني إلى جماعة الإخوان المسلمين رغم أنهم كانوا بفضل الله من أقطابها. ولكن الذي أعرفه هو أنه عندما أصبح سني يؤهلني للانضمام إلى صفوفهم؛ كانوا هم قد اختفوا في المعتقلات، ولم يعد للجماعة من وجود. ومع حملة الاعتقالات تلك تملك الرعب النفوس، ودخلت الأمة في طور جديد أصبح الولد فيه يشي بأبيه والأخ بأخيه؛ فالكل يتمنى أن ينجوَ بنفسه من الهلاك، فيعيشُ بروح ومبدأ "يا رب نفسي" : و"ليذهب الوطن إلى الجحيم"!! وها هو قد غاص فعلا في جحيم قوى السوق والسياسة؛ فمتى ينجو، ومتى نفيق لحاجته؟
بقلم: د. ف ع أ
<< Home