Thursday, May 25, 2006

يقول صاحبى عن أهل الدين والسياسه والتلفزيون المصرى

"فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا"

ليس هناك أدنى شك في أن مفتي الديار الشاب اللامع هو، بكل المعايير، متحدث رائع ومحاور بارع. وهو فوق هذا في كثير من الأحيان مقنع أيضا، لكنه في أحيان أخرى ليست بالقليلة : غير مقنع بالمرة. وأحدث وأوضح مثال على هذا الاستثناء ما صرح به في سياق حديث الثلاثاء أول أمس؛ حين نقل إليه مذيع الفقرة ادعاءا يقول بأنه، شأنه في هذا شأن القيادات الفقهية المسلمة في البلاد، يهادن ويداهن السلطة. ونفى هو ذلك بشكل قاطع، لكن ليس أبدا بمنطق فقيه مسلم؛ وإنما بمنهج محاور سياسي مناور ملهَم. فتصريحه وإن كان يصف حقيقة، فإنها كانت حقيقة من النوع الذي يحمل في طياته باطلا واضحا مرصودا. وسوف يحاول المرء هنا إيصال هذا الرصد، دون زيادة أو مزايدة؛ إذ لا يملك مخلوق ادعاء أن تصريح الفقيه الشيخ كان فيه تعمد المغالطة أو التضليل، لا سمح الله

قال الشيخ الفقيه وقوله الصدق، دافعا ببطلان ادعاء المهادنة والمداهنة، بأنه لا ينتمي ولن ينتمي في حياته إلى أي حزب؛ سواء كان حزب حكومة أو حزب معارضة. وقد أضاف بأنه لم يسع إلى منصب الإفتاء، وإنما منصب الإفتاء هو الذي سعى إليه. والواقع المرصود يحتم علينا أن نسأل عن مبلغ جدية الساعين إليه بهذا المنصب في مسعاهم؛ لدرجة توجب عليهم احترام وتقدير وتوقير صاحب هذا المنصب الزاهد فيه. وآية كل هذا، كما كان الحال في سالف العصر والأوان، أن يسعى الوالي إلى الإمام : لا أن يسعى الإمام إلى الوالي. ولكن الواقع المرصود يقول بأن والي الديار يساوي هذا الرمز وغيره من الرموز الفقهية والدينية الرفيعة بالقيادات السياسية والإدارية .. كولي لنعمتهم. فنجد هذا الإمام ومعه، ومن قبله، الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر .. بل ومن فوقهما قداسة البابا؛ يتبعون الوالي هنا وهناك، كما يتبعه وزراؤه وحرسه ومراسمه وتشريفاته .. في مناسبة أو أخرى. صحيح أن قداسة البابا والإمام الأكبر يخصص لهما مقعدان في المقدمة، بينما يحشر الإمام المفتي بين بقية الكوادر؛ ولكن ذلك لا ينتقص من الإمام المفتي أمام نفسه شيئا: لأنه سمح كريم بالغ التواضع. إذن فإن الوالي يفعلها، بل يفعلها أقل كوادر معاونيه؛ فيستدعون تلك الرموز الرفيعة للحضور فورا وعلى عجل لكي يكونوا بين مستقبليه تارة أو المستمعين إلى خطاباته تارة أخرى

ولو أن تلك الرموز الرفيعة التي سعت إليها المناصب كانت على قناعة كاملة بقدسية وسمو مواقعها ومهامها وواجباتها لتجنبت تلك المواقف والمواقع الحرجة (بل والمهينة بالنسبة لهم)؛ مثلا عن طريق الاعتذار الكريم الهادئ، بكل ما يملكون من السماحة والتواضع والحكمة. فهذا واجبهم أمام الله وأمام أنفسهم وأمام الرعية، تجاه مواقعهم السامية المقدسة التي سعت إليهم ولم يسعوا هم إليها. وعلينا أن نتصور مثلا؛ لو أن الوالي كان مسيحيا مصريا، وليس هناك ما يمنع دينيا ولا دستوريا أن يكون على رأس الإدارة العليا للبلاد مصري ينتمي لأية عقيدة إيمانية : فهل كان يُقبل أبدا من الوالي المسيحي المصري، أو حتى يقبل هو على نفسه، استدعاء البابا إليه .. بينما يجبره واجبه الديني على تقبيل يده ؟

والواقع المرصود بالطبع لا يتوقف عند هذه الظاهرة الرئاسية التشريفية المراسمية للرموز الدينية الأرفع في الدولة ، ولكنه يمتد إلى آفاق أبعد كثيرا؛ هي أيسر عليهم وأخطر عاقبة على الأمة. ودعونا نأخذ مثالا واحدا قائما، وهو ذلك الجهاز الإعلامي الذي يتعامل معه فضيلة الشيخ الإمام الفقيه؛ ونعني به "التليفزيون المصري" تحديدا. ولنبدأ بالبرنامج الذي يظهر فيه فضيلته بانتظام، وهو برنامج لا يخجله أنه ينبني كلية على الاحتيال والابتزاز والقمار؛ وهذا هو أقل ما يمكن أن توصف به بدعة وحيلة ورذيلة المسابقات التليفونية. وإذا كان من الصعب على مبتدعيها ومروجيها من مذيعين ومعدين ومخرجين ومنتجين ورعاة استيعاب حقيقة أن نشاط البرنامج المالي لا يختلف في نوعيته عن الدعارة وتجارة المخدرات وغير ذلك من الموبقات؛ فلا يمكن أن يغيب عن فطنة وحكمة الإمام الشيخ الفقيه أن مثل هذا البرنامج، بل والتليفزيون المصري (وغيره)، حين يستضيفه : فإن مثلهما هو كمثل الشيطان الذي يعظ. بل أسوأ من ذلك، هو شيطان مريد يجند (بحيله الماكرة الضالة المضللة) شيوخا وأئمة أطهارا أبرارا يروجون (بشعبيتهم ونجوميتهم) لبضاعته الفاسدة المفسدة. وإذا كانت حدود المرء (الراصد) في الوصف قاصرة ومحدودة، فإن أمام الشيخ الإمام الهمام جميع الفرص للتحقق والتيقن من أن الفخ الذي وقع فيه (مع غيره من الفقهاء) أغوط وأكدر وأبشع وأفسد وأقبح وأظلم من ذلك بكثير؛ فالمخططون من خلال جاذبيته ينشرون في الأرض الفساد

ولا يمكن لهذا الراصد أن يتصور بأن الشيخ الفقيه يرى أن ذلك العبث وذلك السفه والاحتيال والابتزاز هو حلال في حلال في حلال؛ رغم أن القرآن الكريم قد نهى تماما عن الإنفاق السفيه : "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا". كذلك أمرنا الرسول الكريم، أن : "اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم". وإذا كان "الإسراف في الماء حراما"، فما بالنا والتليفزيون المصري (شأنه شأن كل القنوات السفيهة) يحض على إهدار مال الله الذي آتانا على "الكلام الفارغ .. بل والسفيه"؛ بدلا من أن يوجَّه إلى أوجه إنفاق تغني الفرد والأمة وتحفظ لها أسباب العيش النافع الكريم؛ وتعفي الدولة من التسول والاقتراض والاستيراد لإطعام الأفواه الجائعة وكساء وستر الأجساد العارية. ولعل الشيخ الإمام الهمام على بينة من أن موجة مسابقات الابتزاز هي أحدث صيحات الفساد والإفساد التليفزيوني. ويقترح هذا الراصد عليه أن يشكل لجنة مشاهدة لما تبثه قنوات التليفزيون المصري، ترفع إليه تقريرا بالواقع الذي يشهد بتمجيد الرذيلة والعنف والعري والعهر.. بل وأكثر من ذلك التطاول على الله بحشر اسم الجلالة في الأغاني الرقيعة المصحوبة بالرقصات العارية الخليعة؛ لكي يحكم بنفسه إذا ما كان ما تقدمه الدولة في مصر على أكثر قنوات جهازها الحكومي الرسمي يليق بدولة تدعي أنها دولة مسلمة ترعى أمة من المؤمنين (مسلمين وغير مسلمين) وتفرض عليها عقائدها قيما رفيعة كريمة محترمة؟! وعندها نرجوه أن يسأل نفسه إذا ما كان سكوته، وسكوت غيره من الرموز الدينية والفقهية الرفيعة في هذا البلد؛ يعد .. أم لا يعد: "مهادنة ومداهنة" للسلطة القائمة في الدولة، بجميع مستوياتها؟

والله من وراء القصد

دكتور: ف ع أ