يقول صاحبى: رحم الله الملك
تحدث الكاتب الكبير الأستاذ وحيد حامد في برنامج "البيت بيتك" على القناة التليفزيونية المصرية الثانية منذ أيام؛ حول فيلم كان يعده عن طيّب الذكر المرحوم الشيخ حسن البنا، وتوقف لأن أحدا آخر قد تولى إعداد عمل مماثل. وجاء في حديثه أن عائلة الشيخ قد اعترضت، وجادل في أن ذلك ليس من حقها لأن حياة الشيخ هي الآن (بحكم القانون) ملك للتاريخ وللأمة بعد إذ مرت على وفاته خمسون سنة؛ وأن من حق المبدع أن يتناول الشخصية التي يختارها على النحو الذي يرضي ضميره وحده. وهناك وصف شائع جاء في رواية "أوليفر تويست" للأديب البريطاني الشهير تشارلز ديكنز بأن "القانون أحمق"، فهل يقبل أي مبدع على نفسه أن يبني إبداعه على حماقة حس هي أسوأ من الرضوخ المهين إلى حماقة فكر؟! فماذا يمكن أن يضر المبدع إذا تنازل عن كبريائه المهني وتواضع قليلا واحترم مشاعر أسرة جريحة لا تزال تعيش حياة العزيز الذي فقدت وترتبط به ارتباطا عضويا وعاطفيا قويا لم تستطع سنوات القانون الخمسون أن تمحِها؟! صحيح أن هناك كتبا صدرت عن الشيخ فيها ما ينصف وفيها ما يجحف وفيها ما دون ذلك من تطاول. لكن ما يكتب شيء والعمل الدرامي السينمائي أو التليفزيوني شيء آخر؛ لأنه يحاكي الحياة (بزيف خيال إبداعي) فيحرك آلاما ربما لا تريد الأسرة أن تعود لتجترها يوما من بعد يوم. فهل من المستحيل على مبدع أن يحترم مشاعر أسرة منكوبة؟! وهل جفت القرائح للدرجة التي لم يبق أمام المبدعين من موضوع يقيل أصحاب تلك القرائح الإبداعية من عثرتهم؛ سوى تناول حياة الشيخ الجليل؟
ومن جانب آخر هناك الحياة الخاصة للأقرباء والمقربين من الشيخ الجليل ولا يزالون أحياء أو لم تمض على وفاتهم سنوات القانون الخمسون تلك، فهل بنية المبدعين إلغاؤهم من الوجود أم أن سيرة هؤلاء قد أصبحت هي أيضا ملكا للأمة وللتاريخ؛ من واقع ارتباطها المباشر بالشخصية التي يتعرض لها العمل، ولن يكون لهم أو لذويهم بذلك حق الاعتراض؟
ولعل من اللافت أن الكاتب الكبير في محاولة تعزيز جدليته؛ قد ساق ما تكشف عن الجانب الإنساني في حياة الزعيم الخالد سعد باشا زغلول بأنه كان "قمرتيا"، ولم ينتقص ذلك من قيمة سيرته وزعامته الوطنية شيئا. ويتأمل المرء هذا التصريح فلا يملك إلا أن يتعجب لأمر المبدعين. فالقمار الذي عشقه وأدمنه سعد باشا زغلول الزعيم المثقف المفكر الكبير الناضج اليافع القادم من عمق الريف المصري؛ متربيا مترعرعا بين أصحاب القيم الفطرية من البسطاء هو قمار حميد ودليل ضعف إنساني لا أكثر، بينما القمار القهري الذي استحوذ على الملك الشاب المراهق الذي تولى تربيته رجال كبار ناضجون مثقفون؛ قد صوره المبدعون في أعمالهم الدرامية بأنه قمة الفساد وأنه كان يستحق عليه قطع رقبته، وليس مجرد الإطاحة بعرشه ونفيه من البلاد. وبينما كان بإمكان الذين قاموا على تربية الملك أن يقدموا له ما هو أفضل، لصالح فلاح الأمة وارتقاء الوطن؛ نجد الزعيم المبجل قد استسلم للإدمان وهو يملك كافة مقومات عدم الوقوع فيه أصلا، بل والتخلص منه سريعا بعد وقوعه. ولم يكن الزعيم الوطني التاريخي الكبير، على كل حال، هو الوحيد الذي حظي من المبدعين بالعفو غير المشروط فغفروا له ولغيره، لقاء زعامته وزعامتهم، ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر. وهكذا فإن سعيد الحظ هو ذلك الذي يكفيه المولى شر ازدواج معايير ضمائر أولئك المبدعين
وإذا كان الكاتب الكبير قد أنكر على الأسرة المتضررة حق الاعتراض على أساس تخوفها الخاطئ من تناول سوف يسيء بالضرورة إلى الشيخ الجليل (استنادا إلى حقيقة أن الفيلم لم يعرض بعد؛ أي لم يصبح واقعا يمكن الحكم عليه)، فإننا نجد في مقابل ذلك أن الإعلام المرئي والمقروء (على الأقل) قد عظم مخاوف المفكر الكبير الذي هدد بأن يغادر البلاد ومعه جميع المسيحيين المصريين إذا وصل دعاة الخلاص من خلال حلول عدل الإسلام إلى الحكم (ديمقراطيا)، وكذلك الإدانة المسبقة من ملياردير "المحمول في كل يد" لنفس الفئة لأنهم سوف يعاملونه كمواطن درجة ثانية ويفرضون الجزية عليه؛ فيدفعها عن يد وهو صاغر. ولم يناقش أحد من الإعلاميين أو المبدعين ذلك المفكر الكبير أو ذلك الملياردير المكين في تخوفات تنبني على الظن؛ مع أن بعض الظن إثم وهو في هذه الحالة افتراء على خلق الله وافتراض شيء لم يقع منهم، ودون سند من واقع. والأمر الوحيد الأكيد هنا أن عدالة الإسلام عدالة مقرونة بالإحسان وحفظ كرامة الإنسان؛ ولن يهم من يطبقها مادام يطبقها بشرف وأمانة
بقلم: د. ف ع أ
<< Home