Friday, January 06, 2006

حب مصر هو الحل

في خريف عام 1967 كنت أستقل القطار من مدينة "ستراود" بمقاطعة جلوسترشاير الإنجليزية؛ عائدا إلى لندن .. ومنها، بالطائرة، إلى دبلن بجمهورية أيرلندا؛ حيث كنت أدرس للدكتوراه. والتقيت على القطار بقسيس أرثوذوكسي روسي كان يشارك مثلي في مهرجان "ستراود" الثقافي. وكان من الطبيعي أن أسأله عن وضع الدين في الاتحاد السوفيتي؛ فتحدث وأفاض بالكثير مما نسيت، ولا أتذكر منه سوى قصته عن ذلك الطفل الذي كان يجلس في درس التوجيه الفكري وقد رفع يده ليسأل المعلم متعجبا : "ما كل هذه الضجة عن إله، أو رب، خالق ليس له وجود؟!". وعدت أتذكر هذه القصة وأنا أتابع حوارات كبار مفكرينا ومثقفينا الذين جاءوا لتوعيتنا فكريا وثقافيا وسياسيا على شاشات تليفزيون الدولة، وهذه الضجة الكبرى حول "جماعة الإخوان المحظورة"؛ خاصة عندما أكد أحدهم بالأمس القريب أنه : "ليس هناك شيء اسمه إخوان مسلمون، فهم جماعة محظورة .. لا وجود لها

والعجيب أن بطول ساعات المداولات، يوما من بعد يوم، على مدى الأسابيع التي أعقبت النجاح اللافت الذي حققه ما يسمى بالتيار الديني في المرحلة الأولى التي مرت في سلام دون وقوع شيء يعكر صفو العملية الانتخابية (وهذا بالطبع له دلالاته الواضحة)؛ لم يفسر لنا أقطاب الفكر والثقافة نوع الحظر المفروض على هذه "الجماعة المحظورة" وكيف فرض ذلك الحظر ولماذا. هل هي محظورة لأنها ارتكبت جرائم خيانة عظمى، مثلا؛ مما يفسر هذا الهجوم الرسمي الضاري عليها؟! وإذا كانت الدولة جادة في ذلك الحظر، لماذا سمحت لأعضائها بالترشيح أصلا؟! وإذا كانت، من ناحية أخرى، جادة في السماح لأعضائها بالترشيح؛ فلماذا إذن كل هذا التجريم وتمزيق أوصالها وأحشائها. ثم يأتي أقطاب الفكر والثقافة إلى شاشات التليفزيون، لكي يحلوا لنا تلك الألغاز؛ فزادوا الأمر تعقيدا عليهم وعلينا

وعلى كل حال فإن بإمكان الدولة الخروج من هذا التناقض، بين الحظر والسماح، بالتخلي عن تسمية "التيار الديني" وتجنب الخلط المحظور بين الدين والسياسية؛ وذلك بتبني تسمية علمانية مناسبة من واقع ما يعلن عنه توجه النواب المستقلين .. ونادوا به دائما، حول بناء "مجتمع أخلاقي". وهذا ما أرشدنا إليه قادة الفكر والثقافة الذين ظهروا على شاشات تليفزيون الدولة عبر مراحل العملية الانتخابية الأخيرة؛ مؤكدين أن نواب المجلس السابق المنتمين لهذا التيار قد ركزوا في الأساس على تأصيل "القيم الأخلاقية" التي بها يصلح حال المجتمع، وبخلاف ذلك لم يثيروا أية مشاكل خلافية أو اعتراضية تذكر. وعليه، يمكن للدولة الخروج من هذا المأزق الدستوري بوضع أصحاب هذا التوجه في تصنيف "التيار الأخلاقي". وبدلا من نسبتهم إلى الإسلام، يمكن نسبتهم إلى أمير الشعراء العلماني أحمد شوقي؛ صاحب البيتين الشهيرين

"بالعلم والأخلاق يبني الناس ملكهمو * لم يبن مُلك على جهل وإخراق"
و......"وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ولقد لوحظ أن أصحاب هذا الاتجاه "الأخلاقي" يتمتعون في جملتهم بدرجة عالية من التعليم، ومن العلم والثقافة والفكر؛ مما يكسبهم قدرا عاليا من المصداقية في توجههم الأخلاقي. وهكذا تكسب الدولة جهودهم في سد الفراغ الأخلاقي المزعج القائم في المجتمع، ويتوفر لها الكثير

ومن ناحية أخرى .. فإنه على الرغم من أن مرشحي تلك الجماعة المحظورة الذين سمحت لهم الدولة بالترشيح للانتخابات جهارا نهارا وتحت أعين مراقبيها، والعالم كله، قد رفعوا شعارا واضحا بسيطا؛ إلا أن قادة الفكر والثقافة الذين ظهروا على شاشات تليفزيون الدولة قد جعلوا من الحبة قبة، ومن هذا الشعار الانتخابي السياسي (الأخلاقي العلماني أيضا)، وليس الديني أبدا (كما يجب أن يعرف ذلك جيدا صاحب أدنى دراية بالدين؛ أي دين)، قضية كبرى. وكل الذي فعلوه هو إصدار سلسلة من الأحكام الغيابية، بالإدانة. ومن البديهي أن أي حكم (موضوعي محترم) بإدانة لا بد وأن يسبقه الدليل والدليل يلزمه التحقق والتحقق يلزمه التحقيق؛ وذلك من خلال جهاز قضائي مستقل محترم محترف متكامل، وليس أبدا من خلال اتهام جزافي انفعالي عدواني متشنج .. من متحدث أو محاور تليفزيوني

ومن غرائب وعجائب برامج التوعية التليفزيونية بآثام تلك الجماعة المحظورة، إعلان أن شعارهم هذا يعني بأنهم وحدهم هم المسلمون وأن غيرهم كفرة. فهل إذا كانوا قد رفعوا، بدلا من ذلك، شعارا مثل "حب مصر هو الحل"؛ يكون معنى ذلك أنهم وحدهم يحبون مصر وأن غيرهم خائنون لها؟! والواقع أن "حب مصر" هو الآخر حل رائع ولكن حبها ليس له وجود يذكر، وربما ليس له وجود على الإطلاق .. إلا في الشعارات (الجوفاء تماما). ولو أن لدينا أدنى قدر من الحب الحقيقي لبلدنا لما أحلناه (كما هو واقع ظاهر للعيان) إلى أكبر مقلب قمامة في العالم وأسلمناه إلى قوى السوق (التي لا ترحم) تمزق جسده إربا .. إربا، وتتاجر وتزايد فيه بالشبر وبالبوصة؛ ولكي يبقى همّ فقرائه على بطونهم وهمُّ أثريائه على تكديس ثرواتهم. وهكذا ذبحت مصرنا الأم (الأرض والنهر والتاريخ) تحت أعيننا، أو هي بيعت في سوق النخاسة. ولا نكتفي بالفرجة، وإنما ننشغل عنها تماما بالصراعات وإشعال نيران الفرقة والفتنة. رحم الله مصر المحبوبة للجميع، المذبوحة من الجميع؛ وأدخلها فسيح جناته؟

أما إذا كان هناك كيان (وليكن حزبَ أو جماعة أو رابطة "مصر الأم"، مثلا) قادر على بعثنا من رقدتنا وإيقاظنا من غفلتنا .. ثم رجوع روح مصر حية في داخلنا، فإن برنامجه سوف يتلخص بالضرورة (وببساطة) في غاية مقدسة؛ هي استعادة مصر لمكانتها الحضارية شكلا ومضمونا، فتعود كما كانت : أنظف النظيفات وأجمل الجميلات، في كل الأوقات
بقلم: د. ف ع أ